ان اساس التطور الاقتصادي المشهود في جميع بلدان العالم وعلى اختلاف الزمان والمكان يكمن في وجود بيئة اعمال مواتية، ووجود قطاع خاص ناضج بالحد الادنى في إطار عوامل تحكمه ذاتية وموضوعية، فضلا عن توفر اسس صحيحة في ادارة الاقتصاد وفق منطق السوق المعقم بالتدخل الحكومي لتعديل مساره وانحرافاته كلما دعت الحاجة الى ذلك. وتبرز بيئة الاعمال في مفهومها في إطار مجموعة المؤسسات التي تناولتها، حيث عرف البنك الدولي بيئة الاعمال على انها (مجموعة العوامل الخاصة بموقع معين والتي تحدد شكل الفرص والحوافز التي تتيح للشركات الاستثمار بطريقة منتجة وخلق فرص العمل والتوسع، وتمارس السياسات الحكومية تأثير قوي على بيئة الاستثمار من خلال التأثير على التكاليف والمخاطر وعوائق المنافسة). كما يعرف مؤتمر الامم المتحدة للتجارة والتنمية UNCTAD بيئة الاعمال بما يتضمن بعدين اساسيين، الاول يشمل مختلف العوامل الاساسية التي تؤثر في القرار الاستثماري والتي تشمل مستوى الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقوانين المتعلقة بالاستثمار والمعايير المطبقة للتعامل مع المستثمرين الاجانب وسياسات العمل وطبيعة السوق وآلياته وبرامج الخصخصة والسياسات التجارية والانظمة الضريبية، الثاني يتعلق بسمعة البلد ونوعية الحياة فيه. فيما عرفت المؤسسة العربية لضمان الاستثمار بيئة الاعمال على انها مجمل الاوضاع والظروف المؤثرة في اتجاهات رأس المال وتوطنه، فالأوضاع السياسية العامة وما تتصف به من استقرار او اضطراب والتنظيم الاداري وفاعليته والخصائص الجغرافية والديموغرافية بما يعني من توفر عناصر الانتاج وما شيده البلد من بنى تحتية وخطط البلد وبرامجه الاقتصادية وموازناته وطبيعة السوق السائد فيه والنظام القانوني ومدى وضوحه وشموله. فيما يتصل بماهية القطاع الخاص اذ انه يشير الى تلك الانشطة التي يتعهد بها كنشاط وكملكية الى جهات غير حكومية تتمثل بالأفراد الحقيقيين والاعتباريين كالمؤسسات والشركات اذ تكون القرارات بيد هؤلاء وتكون ملكية عوامل الانتاج لهم. كما ان عملية تخصيص الموارد الاقتصادية يجري وفقا لرؤيتهم في تقصي فرص الربح والتوسع. وهنا تبرز الصلة الوثيقة ما بين وجود القطاع الخاص وايجاد اسس اقتصاد السوق والتي تتمثل هذه الاسس في التملك الخاص لعناصر الانتاج، وحرية النشاط الاقتصادي المراد مزاولته، وتوفر المنافسة الكاملة، والدور الذي يقوم به جهاز الثمن، ووجود دافع الربح وتعظيمه في الانشطة الاقتصادية. ويعمل السوق على ترتيب الاوضاع بخصوص الاجابة على الاسئلة الاقتصادية المتصلة بماذا ننتج What to produce، وكيف ننتج How to produce، ولمن ننتج For whom to produce.
ويعد وجود اقتصاد سوق في البلد يعمل بأسس رصينة على قدر كبير من الاهمية كونه يؤدي الى زيادة الكفاءة الاقتصادية الانتاجية والتوزيعية والتخصيصية للموارد الانتاجية النادرة وهو ما يعني اختيار أفضل الطرق في الانتاج والتوظيف والتسعير. وفي هذا النطاق يقع على الحكومة واجب التدخل فقط من اجل تصحيح مسار قوى السوق في دعم المنافسة وتقويض حالات الاحتكار والتأشير بتشجيع الانتاج في الانشطة التي لا يبادر فيها القطاع الخاص مثل السلع العامة وتقليص الانتاج في الانشطة التي يزداد فيها الاثر الجانبي السلبي على الصعيد الاجتماعي. وتأسيسا على ذلك، تبرز اهمية وجود بيئة استثمارية مشجعة يعمل فيها القطاع الخاص واقتصاد السوق بشكل سلس ومرن من اجل جني فوائده بعيدا عن الاتكال على الحكومة والقطاع الوحيد (النفط) والدخل الناجم عنه والمتسم بالتذبذب اتساقا مع حالة السوق العالمي ومسارات عرضه والطلب عليه.
وفي اطار سعي العراق الى تبني اقتصاد السوق وتشجيع القطاع الخاص من اجل السير قدما باتجاه التصحيح وفقا لرؤاه منذ عام 2004 خاصة ما اشارت اليه المادة 25 من الدستور والتي نصت على (تكفل الدولة اصلاح الاقتصاد العراقي وفق اسس اقتصادية حديثة وبما يضمن استثمار كامل موارده وتوزيع مصادره وتشجيع القطاع الخاص وتنميته)، الا ان بيئة الاعمال في العراق واسس اقتصاد السوق على الصعيد العملي لا تزال متردية ودون ان تبلغ بعد الحد الادنى المطلوب ، فما زالت ارقام مؤشرات بيئة الاعمال له متدنية على الصعيدين العربي والعالمي ضمن مؤشرات سهولة ممارسة الاعمال والمؤشر المركب للمخاطر القطرية وغيرها التي تصدرها المؤسسات ذات العلاقة . وهذا الامر ناجم قطعا بسبب عدم ايلاء الحكومات المتعاقبة الاهتمام الكافي ببيئة الاعمال والقطاع الخاص، فلم يصدر الى الآن قانونا ينظم شؤون القطاع الخاص، وجاء قانون الاستثمار رقم 13 لسنة 2006 وتعديله في قانون 50 لسنة 2015 ناقصا ويحوي ثغرات وتناقضات في الصلاحيات بين مجلس الوزراء والهيئة الوطنية للاستثمار، كما انه لم يولي القطاع المالي والمصرفي اهتماما يذكر وهما قطاعان مهمان لأي اقتصاد متطور. كما ان انتشار الفساد بنوعيه المالي والاداري في طيات التعامل الحكومي، والمناكدات بين الاحزاب السياسية على السلطة والمال جاءت كلها تصب في نفس الفضية المتعلقة بتردي بيئة الاعمال. وفي خضم هذا الوضع غير المحمود لبيئة الاعمال، تبرز مجموعة من الامور التي لو تم تداركها يمكن للعراق الخروج من عنق الزجاجة والاتجاه نحو بر الامان في ظل استقرار سياسي واقتصادي والتي تتضمن:
تحويل نظام الحكم الحالي في العراق الى نظام حكم اخر يمكن معه ان تتمكن السلطة الحاكمة من تنفيذ برامجها بحرية أكبر، كما يمكن للجمهور رصد وتوجيه اللوم بشكل واضح للسلطة ومحاسبتها بعيدا عن تشتت هذا الامر في ظل نظام برلماني تتعدد فيه الصلاحيات والاتجاهات والمذاهب الفكرية.
تعديل قانون الانتخابات وعدم العمل بالقوائم المفتوحة، وتفعيل مبدا المعارضة البرلمانية.
الغاء مجالس المحافظات ووضع بدلا عن ذلك محافظا ونائبين له مثلا يرشحون من قبل الائتلافات الفائزة بالانتخابات البرلمانية حصرا ليتسق عمله مع النظام الرئاسي في تحمل المسؤوليات ونتائجها بوضوح.
الغاء وتقليص امتيازات الرئاسات واعضاء مجلس النواب ومجلس الوزراء والسفراء والوكلاء والمدراء العامون ومن هم بدرجتهم، وهذا يعمل على مجيء طبقة حاكمة وادارية نيتها الخدمة والعمل الجاد وليس طبقة همها الامتيازات الممنوحة مما يسهم في زيادة كفاءة السلطتان التشريعية والتنفيذية على اداء المهام بمهنية وروح صادقة فضلا عن بث جو من العدالة الاجتماعية وتقليص هدر المال العام.
العمل بسلم للرواتب بشكل موحد دون ان يستثنى منها جهة معينة وان يكون الاجر على اساس الشهادة والخدمة وليس على اساس الوزارة التي ينتمي اليها الموظفون مما يعمل معه على بث روح العدالة الاجتماعية وكفالة من هم في سن العمل ولا يجدون عملا سواء في القطاع العام او الخاص من خلال حصة في ملكيتهم بالثرة النفطية.
تعديل قانون الاستثمار فيما يخص ازالة التناقض في الصلاحيات بين مجلس الوزراء والهيئة الوطنية للاستثمار، والاهتمام بالقطاع المالي والمصرفي في بنوده بما يتسق واهميتها في عمل بيئة الاعمال.
تشريع قانون للقطاع الخاص ينظم عمله ويحدد مهامه وصلاحياته وتضمينه كل ما من شأنه ان يشجع نشاطه من اجل تفعيل المبادرات الفردية في الانتاج والابتكار.
تعزيز وترسيخ اسس اقتصاد السوق القائم على التعقيم الحكومي الضروري في مجالات المحافظة على الامن العام والاخلاق العامة والصحة وتوفير السلع العامة (الامن والدفاع والبنية التحتية).
تبني سياسة تجارية خارجية قائمة على اساس حماية الصناعة المحلية والمنتجات المحلية وعدم السماح بإغراق السوق بالمنتجات الاجنبية رخيصة الثمن كون ان هذا الامر يقضي على ما تبقى من الصناعة الوطنية مما ينجم عنه مشاكل تتعلق بالبطالة والنزعة السلبية نحو الاستيراد في كل شيء.
تشجيع المشاريع الزراعية واصدار تعليمات وقوانين تنظم الملكية الزراعية والاستثمار الزراعي بما يضمن توفير سلة الغذاء للمواطنين وعدم الاعتماد على الخارج وهو يسمى بالأمن الغذائي.
الاهتمام بالقضاء والتعليم في كافة مراحلهما ومفاصلهما كونهما عماد الاصلاح والسلام والرقي المنشود.
الاهتمام بقطاع الاسكان من حيث منح الاراضي والقروض وهو قطاع كبير ومتنامي يعمل معه على زيادة التوظيف والقضاء على البطالة وتعزيز القطاعات والصناعات المرافقة ذات الارتباط الخلفي والامامي مما يسهم في التخفيف من وطأة الازمة الاقتصادية والاجتماعية.
الاستاذ المساعد الدكتور
عمار محمود حميد الربيعي
كلية الادارة والاقتصاد/جامعة كربلاء